شهدت محافظة المهرة صباح اليوم السبت حدثا استثنائيا يتمثل باعلان مجلس إنقاذ جنوبي بعد أيام من تطورات مختلفة شهدتها اليمن، وفترة طويلة من التدارس والتشاور بين مكونات ذلك المجلس.

يأتي إعلان المجلس في ظروف بالغة التعقيد تمر بها اليمن، وفي خضم تطورات أدت لولادة هذا الكيان الذي يملأ فراغا كبيرا خاصة في الساحة الشرقية من اليمن.

شخصيات قبلية وإجتماعية وكيانات وأحزاب سياسية انخرطت في هذا الكيان لتجسد حالة جديدة من الوفاق المرتكز على أسس وطنية، وتجمعها قضايا مشتركة ومصير واحد، مستندة إلى مجموعة من المتغيرات التي فرضت ضرورة التوحد ولم الجهود ووحدة الصف.

لعل أبرز الدوافع لهذا المجلس هو حالة الإستئثار التي ظهر بها البعض في حديثه عن المحافظات في جنوب اليمن، وإدعائه تمثيلها، مدفوعا بأجندة خارجية تطمح للوسع، وفرض شكل جديد من أشكال الإستعمار، وتمرير مخططات تمزيقية يراد لها أن تعود بالوضع إلى مرحلة تخلصت اليمن منها منذ عقود.

أدت سيطرة المجلس الإنتقالي الجنوبي المدعوم من دولة الإمارات العربية المتحدة، على عدة محافظات يمنية، وانقلابه على الشرعية في اليمن، إلى خلق مشاعر بدأت تتنامى مشفوعة بدعوات تحذير لما يجري رسمه على أرض الواقع، ومثلت أحداث أغسطس الماضي التي شهدتها مدينة عدن منعطفا جديدا أثار التنبه واليقظة.

عملت دولة الإمارات وبتماه من المملكة العربية السعودية على تسمين المجلس الإنتقالي ليصبح الطرف المعبر عن الجنوب في اليمن، ومولت أبوظبي تشكيل وتأسيس قوة عسكرية واسعة تتبع الإنتقالي في كل محافظة على حدة بغرض إخضاع تلك المحافظات لسيطرته، وصولا للسيطرة على كل محافظات جنوب اليمن.

كانت هذه التطورات كافية لإحياء الروح في باقي المكونات الحية بمدن الجنوب لتنتفض معبرة عن إرادتها، متلافية الصورة النمطية التي حاول الإنتقالي رسمها وتقديمها، فتداعت لتشكيل كيان جديد يعبر عن صوت طالما جرت محاولات لإسكاته وتهميشه وإقصائه.

ما يميز هذا المجلس أنه يتشكل من شخصيات قبلية واجتماعية لها وزنها في المحافظات التي تنتمي لها، كالشيخ علي سالم الحريزي في محافظة المهرة، والشيخ عيسى بن ياقوت في محافظة سقطرى، إضافة لانضمام شخصيات سياسية معروفة بنضالها السياسي كـ حسن باعوم الذي يمثل تيارا عريقا من تيارات الحراك الجنوبي، وآزال عمر الجاوي، وعوض محمد بن فريد وغيرهم.

أما المكونات الأخرى التي أكسبت هذا المجلس أهمية إضافية فهي الأحزاب السياسية التي انخرطت فيه وأبرزها حزب المؤتمر الشعبي العام في محافظة المهرة، وأحزاب سياسية أخرى التحقت في أطر المجلس لتكتمل الصورة العامة للمجلس، الذي يعد اليوم حصيلة جهود مشتركة للعديد من الجهات اليمنية.

وضمت قائمة المؤسسين شخصيات أخرى تنتمي لمختلف محافظات جنوب اليمن، الأمر الذي يخلق تكامل وتنوع وتناغم في تمثيل مختلف محافظات الجنوب، ويعكس إحساس تلك القيادات بالمعضلات الكبرى التي تواجه الجميع، ويدفعها نحو العمل بروح جماعية، كما أن الكثير من تلك الشخصيات لها تجربة طويلة في مجال العمل النضالي والحكومي والسياسي.

وكان انصهار تلك الشخصيات والمكونات في هذا المجلس رغم تعدداتها المختلفة، وإذابتها للفوارق، وتخليها عن الأفق الضيق واحدة من أهم الدلالات التي تشير لروح التحدي والعزيمة الجماعية، المتطلعة نحو أهداف أسمى، وحضور يتسامى عن لغة الفرقة والشتات نحو واقع جديد يتسع للجميع، ويكون بمستوى التحديات التي يواجهها.

لكن الدلالة الأبرز في تشكل هذا المجلس كانت في انعقاده بمحافظة المهرة الواقعة في شرق اليمن، والتي شهدت طوال العامين الماضيين حراكا شعبيا واسعا بسبب الحضور العسكري للمملكة العربية السعودية، وسيطرتها على المحافظة ترجمة لأجندتها التوسعية، وأهدافها الرامية في الاستحواذ والسيطرة على المحافظة.

وكانت السياسة السعودية التي أدارت محافظة المهرة منذ وصولها في نوفمبر من العام 2017م واحدة من العوامل التي أدت لتشكل هذا المجلس، فقد مارست السعودية هناك سياسة قائمة على التسويق الوهمي للمشاريع وأعمال الإغاثة تحت غطاء إعادة الإعمار، واستقطبت العديد من المشائخ الذين يحملون جنسيتها للعمل معها، وفرضت على المحافظة شخصية معروفة بتاريخها لتديرها، وفي المقابل عززت حضورها العسكري داخل المحافظة بشكل يبعث على التساؤلات، ويثير الشكوك من حقيقة الدور الذي تؤديه.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل واصلت السعودية تشكيل المشهد العام في المهرة بما يتوافق مع أجندتها وطموحها، فعملت على إطباق السيطرة الكاملة على المحافظة، ومارست الإقصاء والتضييق على كل من يعارض سياستها، وتنصلت عن اتفاقاتها العديدة مع المواطنين هناك، ودفعت بالوضع نحو التصادم بين أبناء المحافظة الواحدة الخالية من الصراع، والبعيدة عن الحرب الجارية في اليمن.

لذلك فإن تشكيل هذا المجلس يعكس فشل السعودية في المهرة، وانهيار المنظومة التي بنتها هناك، وإخفاقها في إخضاع المحافظة ومواطنيها لمصلحتها وأجندتها، وإعلان وفاة لكل مشاريع الوهم التي سوقتها، وبالتالي فشل وإخفاق الأطراف التي اعتمدت عليها السعودية في المهرة، سواء في السلطة المحلية أو الشخصيات الإجتماعية والقبلية والعسكرية.

وإذا ما أضفنا باقي المحافظات اليمنية التي انخرطت في هذا المجلس وعلى رأسها محافظة حضرموت، يتضح أيضا أن هذه المساحة التي تمثل الواجهة الشرقية لليمن ظلت بعيدة عن الحراك الميداني الفاعل، والتحالفات السياسية المشتركة، الأمر الذي سيدفع نحو إيجاد حراك سياسي بناء، بوسعه التأثير واختراق الكتلة الصلبة التي حاول البعض وضعها لتصدر المشهد في مدن جنوب اليمن.

أما على المستوى العام فيأتي تشكل المجلس وإعلانه بعد حالة من التردي تعيشها اليمن، جراء الحرب الجارية، ودفعت مجموعة من المتغيرات الناتجة عن تلك الحرب لظهور المجلس، ليمثل صوتا جديدا مناهضا للحرب، ومطالبا بالسلم والسلام، وناقدا لكل السياسات الخاطئة التي أغرقت البلاد في الفوضى ومشاريع التمزق والإنهيار الشامل لكل مقومات الحياة.

وعكس الحيثيات التي طرحها المجلس خلال حفل الإشهار المرتكزات الأساسية التي انطلق منها المجلس، وقدمت مصفوفة من المبادئ والتصورات التي جاء استجابة لواقع حال اليمن اليوم بشكل عام، وانبثقت من مجمل التأثيرات السلبية لحالة الحرب وتداعياتها المختلفة.

فقد أكد بيان المجلس هدفه نحو وقف الحرب ورفع الحصار وإنقاذ البلاد من حالة الانقسام والتشظي والتردي من خلال الدعوة للحوار والشراكة بين كل الأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة والوقوف على مسافة واحدة من الجميع.

وأعلن رفضه رفضه للتواجد العسكري الأجنبي في اليمن والتدخل في الشؤون الداخلية، ورفض اقتطاع أي جزء من أراضي اليمن أو جزرها أو بحارها، أو حقولها التاريخية، وكذلك رفضه أي استحداثات يقوم بها أي طرف أجنبي في الأرض أو البحر سواء كانت بشكل مباشر أو غير مباشر عبر أدواتهم المحلية والمليشيات التابعة لهم.

المجلس كشف في بيانه العديد من الحقائق التي جرى تغييبها خلال الفترة الماضية، ومن أهمها أن الشعب صاحب السلطة ومصدرها، مع تمسكه بالسيادة الوطنية ورفض المشاريع الخارجية، والحفاظ على مقدرات البلد وثرواتها المادية والبشرية، والتمسك بحق الشعب في التعويض العادل عن كل آثار الحروب، واستعادة الأموال والحقوق المنهوبة.

تلك المبادئ تمثل لافتة تطالب بها الكثير من مكونات الشعب اليمني في الوقت الراهن، خاصة بعد الوضع الذي وصل إليه البلد، ومحاولات وضعه في خانة التهميش، وفرض الوصاية على جميع قراراته، وانتهاك سيادته، وهو بهذا يرفع صوته عاليا في مساحة واسعة يسودها الصمت، ويشكل بهذه المبادئ أولى لبنات إحياء الروح الوطنية، البعيدة عن الهزائم، والمتوثبة لتغيير الران الذي جثم على البلد.

وعلى الرغم من الحضور العسكري المكثف للمملكة العربية السعودية في المهرة، والتشكيلات العسكرية المتعددة للمليشيا التي تمولها هناك انعقد المجلس وأعلن عن نفسه، وهي رسالة بالغة الدلالة أوحت بالانتصار، وعكست القوة الحقيقية للمجلس، والتأثير الذي يتمتع به، وأكدت حضوره المؤثر، وشعبيته الواسعة، وتظافر الكثير لإنجاحه، وتعويلهم على أداءه خلال الفترة القادمة.

إن انعقاد المجلس بحد ذاته يعد انتصارا يكسر الجمود الراهن، ويؤكد حيوية اليمنيين ويقظتهم، ورفضهم للخضوع والإنكسار، ويمثل بادرة أمل في إنعاش الذات اليمنية، ودرسا بليغا قادما من الشرق، وتجربة تستحق أن تتكرر في مختلف ربوع اليمن.