نشر موقع معهد "بروكينغز" مقالا مشتركا للباحثين كاثرين هارفي وبروس ريدل، حللا فيه قدرة العراق على أداء دور الجسر في الخليج، حيث أشارا إلى التحسن التدريجي في العلاقات بين السعودية والعراق منذ عام 2015، في وقت شهدت فيه الأشهر الماضية عددا من التطورات المهمة.
ففي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، أعيد افتتاح معبر عرعر الحدودي، الذي يعدّ المعبر الرئيسي بين البلدين، لأول مرة منذ 30 عاما.
وفي نهاية آذار/ مارس، وفي أثناء رحلة إلى الرياض قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وقع البلدان عددا من الاتفاقيات في مجالات العلاقات الثقافية والاقتصادية. والأهم من هذا، هو التزام المملكة بزيادة نسبية للاستثمار في العراق إلى 3 مليارات دولار من 500 مليون دولار. وقبل عشرة أيام من رحلة الكاظمي، استضافت حكومته محادثات سرية مباشرة بين السعوديين ومنافسيهم الإيرانيين، وتركزت المحادثات على اليمن.
وقطع السعوديون العلاقة مع إيران بعد هجوم متظاهرين على البعثة الدبلوماسية في طهران، لكن الملك سلمان استخدم هذا الحادث كذريعة لقطعها. وفي تزامن مع إغلاق البعثة السعودية في إيران، افتتح السعوديون بعد يومين سفارتهم في بغداد لأول مرة منذ 26 عاما، وهو عمل كان يتم الإعداد له قبل عام. ويعدّ الملك سلمان وابنه ولي العهد محمد، من أكثر المعادين لإيران بين قادة السعودية.
ومن هنا، فقرارهما فتح حوار مع الغريمة الإقليمية، يعدّ خطوة كبيرة. وعلق مسؤول عراقي على المحادثات، أن الكاظمي "حريص" على أداء العراق دور "الجسر" بين الجارتين المتعاديتين. وتنذر المحادثات التي استضافها العراق إلى ديناميكية في العلاقات بين إيران والعراق والسعودية، الدول الثلاث اللاعبة في منطقة الخليج، التي يجري العمل عليها منذ عقود.
وأضاف الكاتبان أن المعلقين الخارجيين عادة ما نظروا لمنطقة الخليج، منذ عام 2003 عبر رؤية القطبين، أي النزاع بين السعودية وإيران. والواقع أن المنطقة هي متعددة الأقطاب "مثلث" ويجب فهمها عبر هذه الرؤية. وتنافست الدول الثلاث؛ العراق وإيران والسعودية، منذ خروج البريطانيين من منطقة الخليج في بداية السبعينيات من القرن الماضي على التأثير بالمنطقة. وحاولت إيران في ظل الشاه، التي كانت الأكبر بين الثلاث، تأكيد قوتها والهيمنة على المنطقة. وحاول العراق البعثي الذي يعدّ ثاني أكبر هذا المثلث، تأكيد هيمنته على الجزء العربي من الخليج، بمن فيها السعودية.
وكانت الأخيرة الأصغر من دول المثلث وبجيش ضعيف. وحاولت السعودية الحديث مع الدولتين الكبيرتين من أجل منع انتشار طموحات الهيمنة، وتأكيد سيطرتها في الوقت نفسه على بقية دول الخليج الصغيرة. وضمن هذا السياق، يمكن النظر إلى السعودية على أنها الحامل للتوازن في منطقة الخليج أو "الموازن"، في نظام القوة وفي حالة عدم اصطفاف أو تحالف مع الدولتين. وكان هدفها أن تحقق المساواة بين المحاور المتنافسة، والتأرجح أماما وخلفا كلما دعت الحاجة.
وفي حالة السعودية في أثناء السبعينيات من القرن الماضي، كانت العلاقات الجيدة مع البلدين ضرورية لتحقيق التوازن وأداء دور الموازن. وكان السعوديون يشكون بطموحات الشاه الإمبريالية، لكنه كان يقود بلدا مثل بلدهم، ملكي. ولم تثق السعودية بصدام حسين أيضا، لكنه كان مثل السعوديين سنيا. ومن هنا، وجد السعوديون مرونة في التعامل مع الطرفين، فكلما دفع أي منهما بسياسة لا تعجبهم، مالوا للطرف الآخر لإحباطها.
إلا أن الثورة الإسلامية في إيران أثرت على هذا التوازن السعودي الحساس، وتعاملت الرياض مع الثورة كتهديد لها؛ ولهذا وقفت مع صدام حسين ونظامه البعثي ضد إيران الإسلامية. ومع أن الكثير من المعلقين يتعامل مع الحرب العراقية- الإيرانية كبداية للتنافس السعودي- الإيراني، إلا أن هدف السعودية كان في ذلك الوقت أداء دور الموازن بين قطبين. ورغم أن العراق كان البادئ في الحرب الرهيبة، إلا أن إيران المعادية هي التي رفضت وقف الحرب حتى عام 1988.
ومع أن السعوديين تحالفوا مع العراق طوال الحرب، لكنهم حاولوا التحاور مع إيران؛ فقد زار وزير الخارجية سعود الفيصل طهران في ذروة الحرب عام 1985. ووصلت العلاقات السعودية- الإيرانية أدنى مراحلها في عام 1987 عندما بالغت قوات الأمن في الرد على تظاهرات حجاج إيرانيين وقتلت 402 من الحجاج. وفي العام التالي الذي تزامن مع نهاية الحرب، قامت السعودية ببادرة حسن نية تجاه الإيرانيين، وعبّر الملك فهد عن أسفه وحزنه لغياب الحجاج الإيرانيين نتيجة أحداث العام السابق. وكان هدف السعوديين هو إقامة علاقة وظيفية مع إيران، حيث يستطيعون من خلالها بعد نهاية الحرب إعادة بناء التوازن. ولكن غزو صدام حسين للعراق صدمهم وأنهى قدرتهم على بناء التوازن وبشكل دائم.
وقطعت الرياض العلاقات مع صدام وعبرت عن أملها بتغيره. ولم يكن السعوديون متحمسين للحرب التي قادتها إدارة جورج بوش الأب عام 1990 وجورج دبليو بوش في عام 2003 للإطاحة بصدام، إلا أنهم حاولوا إثارة انقلاب في بغداد يطيح بصدام، ويستبدل بجنرال عربي سني يمكنهم التعاون معه.
ونعرف الآن أن الغزو الأمريكي لم يجلب معه عربيا سنيا بل برلمانا تسيده الشيعة. ولم ينظر الملك عبد الله الذي حكم ما بين 2005 – 2015 للعراق كبلد يمكن التعامل معه لموازنة الهيمنة الإيرانية، بل كحليف لطهران ودويلة تابعة لإيران. وكان ردا مفرطا من الملك عبد الله، مع أن القيادة السعودية الحالية باتت تتقبل عراقا بقيادة الشيعة، رغم حنينها لعراق يقوده السنة.
وكان الملك عبد الله محقا في أمر واحد، وهو أن العراق في عهد صدام منح السعودية الفرصة لأداء دور الموازن. وعندما أصبح العراق تحت تأثير الشيعة المرتبطين مع إيران، خسرت السعودية دورها التقليدي. لكن العراق بقيادة شيعية عربية لديه الفرصة لأن يؤدي دور الموازن بين البلدين، وأفضل من علاقتهما بعضهما مع بعض.
وفي الوقت الذي كانت فيه السعودية قادرة على التأرجح بين المنافسين القويين، أصبح اللقب الآن صالحا على العراق. فقد بات بعد عقود من الحرب والنزاعات أضعف الثلاثة. وهو يحتل موقع الموازن الذي احتلته مرة السعودية. وفي السنوات الأخيرة، تبنى العراق سياسة خارجية غير منحازة. وطالما خطط رؤساء الوزراء زيارتهم لطهران لكي تتزامن مع زيارتهم للرياض.
وكما قال رئيس الوزراء في حينه عادل عبد المهدي في 2017؛ إن العراق "يرفض أن يكون جزءا من سياسة المحاور"، وقال؛ إن بلاده "كانت ضحية هذه المحاور".
ومع مرور الوقت، يمكن للعراق غير المنحاز لو بقي على هذا الحال أن يوازن بين تنافس جارتيه، كما فعلت السعودية هذا في الماضي. ويمكن أن يؤدي العراق دور "الجسر" كما يريد الكاظمي لحل الخلافات بين السعودية وإيران، وبغداد هي المكان الطبيعي للقيام بهذا.
ويريد العراق أن يكون مكانا لجسر الخلاف السعودي- الإيراني، وكما قال مسؤول عراقي معلقا على المحادثات الأخيرة: "من مصلحة العراق أن يؤدي هذا الدور، فكلما استمرت الخلافات في المنطقة، كانت ساحتها هنا" أي العراق. ومن هنا، فالتقارب السعودي- الإيراني يعني منطقة هادئة وعراقا هادئا. وعلى المدى القريب، فلن يكون العراق قادرا على أداء هذا الدور؛ ذلك أن السعودية وإيران ليست لديهما الإرادة للمصالحة.
وتركزت المحادثات الأخيرة حول اليمن الذي علقت فيه السعودية بحرب مكلفة. وتدعم إيران الحركة الحوثية ولا يكلفها هذا الدعم الكثير. ويريد السعوديون من إيران أن تقنع الحوثيين بوقف الحرب التي ينتصرون فيها ويطلقون الصواريخ على الأراضي السعودية.
ولو أدت المحادثات هذه لوقف إطلاق النار، فستكون تطورا مهما ويساعد على وقف أسوأ كارثة إنسانية في العالم. وسيظل العراق ضعيفا حتى يمارس نفوذا على البلدين للتصالح، لكن ما جرى في العراق بداية الشهر الحالي هو إشارة لدينامية قد تكون علامة المستقبل.
وباختصار، فالخليج ليس منطقة يتنازع فيها قطبان بل هو مثلث قوى. وسيعود العراق الذي خرج من المثلث لسنوات لأداء دوره من جديد ويسهم في تخفيف التوتر. وتدعم الولايات المتحدة وبهدوء الجهود العراقية. ومن مصلحة الولايات المتحدة تخفيف التوتر الطائفي بالمنطقة. وجعل الرئيس بايدن وقف الحرب في اليمن أولوية، ومساعدة بغداد في مصلحة الجميع وإنهاء هذه المأساة.
التعليقات