ظهرت ملامح الإرهاق والتعب والخوف بشكل أكبر على ملامح المواطنين الذين يواصلون النزوح القسري من مدينة غزة وشمالها إلى مناطق وسط وجنوب القطاع، وبدت وجوههم أكثر شحوبا، مع وصولهم أول المناطق الواقعة جنوب وادي غزة، بعد أن قطعوا "طريق الموت" المليء بالدبابات الإسرائيلية، والمغطى بطائرات قصفت مرات عدة أفواج النازحين فأوقعت في صفوفهم العديد من الشهداء.
ويمكن ملاحظة تلك الملامح ظاهرة على من عايشوا لحظات الموت ألف مرة خلال اليومين الماضيين، من النازحين الذين كانوا يتواجدون في مشفى الشفاء، والذي تحاصره قوات الاحتلال.
نازحو الشفاء.. حكايات مريرة
من بين جموع النازحين الجدد القادمين من عدة مناطق متفرقة في شمال القطاع، بحثت “القدس العربي” على أولئك الذين كانوا قبل الخروج نازحين داخل مشفى الشفاء غرب مدينة غزة، والذي تعرض لعمليات قصف جوي أوقعت العديد من الشهداء وأجبرتهم على المغادرة.
أرشدت سيدة قطعت مع عائلتها “طريق الموت” على شابة عشرينية، وصلت لتوها مع أسرتها، وكانت تنتظر على جانب الطريق بانتظار وصول الوالد الذي تأخر قليلا، حيث استراح بعد اجتياز منطقة الوادي، من التعب الذي حل به، فقد حمل ذلك الرجل نجله المريض طوال الطريق.
تقول تلك الشابة وتدعى داليا، ويقع منزل عائلتها على الحدود الشرقية لحي الشجاعية شرقي مدينة غزة، والتي أمضت مع أسرتها قبل عملية النزوح الثانية أكثر من ثلاثة أسابيع متواصلة في مشفى الشفاء، إن الوضع في المشفى ازداد سوءا في اليومين الأخيرين، وأن ما كانوا يعانونه طوال الفترة السابقة، كان يعتبر نعيما عمّا عايشته الأسر النازحة قبل الخروج القسري.
وتروي داليا لـ"القدس العربي"، حكايات الموت في المشفى، وتقول: "بالأصل، لم يكن متوفرا لدينا بسبب الحصار على مدينة غزة وشمالها مياه تكفي للشرب، والطعام لم يكن شحيحا بل كان معدوما".
وتضيف: "بعض البسكويت الذي اضطررنا لتخزينه خشية من الوصول لأيام صعبة، كان يقسم على أفراد الأسرة، كل واحد يحصل على كمية لا تكفي طفل رضيع"، وتشير أيضا إلى أن الخبز لم يكن متوفرا في المشفى، حتى قبل إغلاق المخابز.
ومضت داليا في شرح الحالة وقد أجهشت بالبكاء: "كل شيء كان صعبا، حرام.. حرام.. حرام"، وتابعت: "كبار وصغار بكوا هناك من الجوع والعطش”، وتشير إلى أن القصف المركّز في اليومين الأخيرين حول مشفى الشفاء وفي أحياء مدينة غزة، كان يمنع الرجال من الذهاب إلى أي مكان لتدبير أي نوع من الطعام".
وهذه الفتاة التي كانت قبل الحرب تعمل موظفة في إحدى الشركات، تقول إنه لم يخطر ببالها يوما أن تعيش هذا الواقع، وتشير إلى أن حال أسرتها كانت يعيشه عشرات آلاف المواطنين في مجمع الشفاء.
حصار المشفى
لكن هذا الواقع أصبح أكثر صعوبة ومرارة مع وصول دبابات جيش الاحتلال إلى مناطق قريبة من المشفى، وتحديدا بعد التوغل في حي تل الهوا ومنطقة ميناء الصيادين ومخيم الشاطئ، حيث أصبح المشفى محاصرا من كل الاتجاهات، واستهدف القصف الجوي عدة أقسام في المجمع.
ويقول والد إن إطلاق القذائف التي تحتوي على قطع معدنية أشبه بالسكاكين، على المشفى، والتي أدت إلى إصابة نازحين وبتر أطرافهم، جعلته والعدد الأكبر من المتواجدين يتخذون قرار الخروج رغم أهوال الطريق.
وقد جرى توثيق إطلاق أحد تلك الصواريخ من خلال كاميرات النازحين والصحافيين الذين تواجدوا في المشفى قبل النزوح، حيث أسفرت عند عدة إصابات، بينهم شاب كان يتواجد في ساحة المشفى وبُترت قدمه.
ويوضح هذا الرجل أنهم كانوا يسمعون ليلا قبل الخروج من المشفى أصوات هدير الدبابات الإسرائيلية، وبدا صوت إطلاق النار والاشتباكات قريبة من أسوار المشفى، ويقول إنه بعد عملية الترويع ونفاد الطعام والماء، وتيقن الجميع أنهم لن يحصلوا على أي كسرات من الطعام لاحقا، وبدء انقطاع التيار الكهربائي وانقطاع إمدادات المياه غير المخصصة للشرب، اتخذ الغالبية قرارا بالخروج والتوجه رغم الطريق المخيفة التي تحيطها الدبابات حول المشفى إلى أي مكان آخر، وفضّل هذا الرجل عدم الحديث أكثر، وبدا متأثرا من مواقف ومشاهد تركها خلفه في المشفى.
لا ماء ولا طعام
وفي دلالة على نفاد المياه حتى تلك غير المخصصة للشرب، وثّق أيضا قيام مواطن بجمع مياه في جالون بلاستيكي، سكبت على الأرض، في شارع قريب من المشفى، لنقلها إلى أسرته لشربها.
أبو سامح رجل كانت أسرته تقطن في حي الكرامة الذي دُمر مع بدايات الحرب، ونزح إلى مجمع الشفاء بعد ذلك، لم يختلف في وصف الوضع هناك عن سابقيه، حيث المعاناة في الحصول على قليل من الماء والطعام. وتحدث عن صعوبة مبيت عشرات آلاف المواطنين في ساحات وأروقة المشفى التي لا تكفي لأكثر من 1000 شخص في أحسن الأحوال.
وأشار أبو سامح إلى أن، "الظروف الصعبة في المشفى، أجبرت النازحين هناك، على التعايش مع النوم إلى جانب جثث وأشلاء الضحايا، ويقول إنه على مقربة من ثلاجة الموتى وفي الساحة المقابلة لها، وفي مناطق عدة في المشفى، كانت الطواقم الطبية تضع جثامين الشهداء بانتظار دفنها".
وتابع، "أن الأيام الأخيرة كانت أكثر قساوة، فلم يعد هناك قدرة على الخروج من بوابة المشفى والوصول إلى المقابر، ما اضطر إدارة المشفى لحفر قبر جماعي، ودفن بعض الجثث والأشلاء"، وقال "أنه حين غادر مع أسرته وآلاف المواطنين، كانت هناك جثث جديدة من بينها نازحون قضوا في اليومين الأخيرين:,
ويؤكد أبو سامح، أن الجميع في المشفى تيقّن أن المصير سيكون الموت المحتمل سواء جوعا أو مرضا أو بالقصف من قبل جيش الاحتلال.
وعن رحلة الخروج من المشفى، يقول لـ “القدس العربي”، خرجنا فوجاً واحدا من المشفى نحمل أمتعتنا على ظهورنا، ونسير بأطفالنا من “شارع الوحدة” المقابل لبوابة مشفى الشفاء الرئيس، باتجاه منطقة اليرموك، ومن هناك اتجهنا إلى منطقة الساحة الرئيسة لمدينة غزة، ويقول إنهم كانوا يسمعون في رحلة الخروج هذه أصوات الدبابات على مقربة منهم.
ويؤكد أبو سامح أنهم شاهدوا دمارا كبيرا في “شارع الوحدة”، بسبب القصف الإسرائيلي، فيما كانت هناك جثث لشهداء في عدة مناطق خلال رحلة النزوح من المشفى، ويقول هذا الرجل: “في شهر نزحنا مرتين، ولا نعرف شو بدو قدام (ماذا سيحدث لاحقا)”.
حكايات النزوح المؤلمة
وفي دلالة على ذلك، أحضرت سيدة من النازحين طفلا رضيعا لا يتعدى عمره ثلاثة أشهر، إلى مشفى شهداء الأقصى بمدينة دير البلح وسط قطاع غزة، وقالت إن نجلها وجده عند “منطقة الدعوة” بعد اجتياز “وادي غزة”، ملقى على الأرض. وفي لقطات فيديو لهذه السيدة، قالت إن الطفل الذي وجد بحوزته أوراق تدلل على اسمه وعائلته، كان يرضع طبيعيا، وأنها أحضرته إلى المشفى لوضعه في حضانة الأطفال ورعايته طبيا.
ومن المحتمل أن تكون أسرة هذا الطفل قد تعرضت لاستهداف من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية وطائرات الاستطلاع، التي تحوم فوق رؤوسهم خلال رحلة النزوح.
كذلك أكدت عدة عائلات أن قوات جيش الاحتلال التي تتواجد على جانبي طريق النزوح القسري، اعتقلت عددا من الشبان، وأبلغتها أنها ستطلق سراحهم بعد مرور يوم، حيث تستخدمهم كـ "دروع بشرية".
حكايات أخرى عن النزوح
قابلت "القدس العربي" عوائل غزية، قالت إنها لا تعرف مصير باقي أفراد الأسرة.
وأطلقت أسر غزية في تسجيلات نشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، مناشدات للصليب الأحمر بالعمل على إنقاذ أهاليهم المحاصرين بين أرتال الدبابات، ولم يعد لديهم ما يأكلونه أو يشربونه، وطالبوا بأن يتم فتح الطريق أمامهم للخروج، فيما طالب آخرون فرق الصليب الأحمر والمنظمات الأممية بالذهاب إلى مناطق سكن أسرهم لمعرفة مصيرهم، إن كانوا أحياء أو أموات، بعد انقطاع الاتصال بهم.
وكان من بين النازحين الجدد، محفوظ إبراهيم، الذي غادر منطقة سكنه غرب مدينة غزة، هو وأسرته وأبناؤه وأزواجهم وأطفالهم مشيا على الأقدام من تلك المنطقة التي حاصرتها الدبابات الإسرائيلية حتى منطقة “الصحابة” وسط المدينة، ومنها بعد المبيت ليلة، توجهوا في رحلة النزوح إلى “جنوب وادي غزة”.
كان الرجل وهو في منتصف الخمسينات قد وصل إلى مشارف مخيم البريج، وفضّل الاستراحة قليلا في الطريق هو وأفراد الأسرة المتعبين من السير مشيا طول تلك المسافة، وقال لـ”القدس العربي” إنه سيتجه إلى مدينة خانيونس جنوبي القطاع، ويقيم هناك في أحد مراكز الإيواء.
ويؤكد هذا الرجل الذي حمل بين يديه أحد أحفاده ووضع إحدى يديه على كتفه لتهدئته بعد أن دخل في نوبة بكاء، إن الظروف الصعبة ونفاد الطعام من المنزل ومن المحال التجارية المجاورة، أجبرته وجيرانه على اتخاذ قرار النزوح، ويؤكد أنه لم يعد هناك أي طعام في أسواق مدينة غزة، بسبب اشتداد الحصار الإسرائيلي، ودخول الدبابات إلى مناطق أكثر عمقا.
القدس العربي
التعليقات