أكد معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى أن الآثار المباشرة لحملة جماعة الحوثي ضد الشحن البحري خطيرة بشكل واضح، ولا بد للولايات المتحدة والسعودية والشركاء الآخرين الاستعداد لاحتمال أن تستخدم الجماعة نفوذها المكتشف حديثا بطرق أخرى تتجاوز حرب غزة.
وقال المعهد في تحليل له نشره الأربعاء الماضي، إن "التهديد لا يزال يتصاعد بشكل كبير كمّا ونوعا، ولم يتمكن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ولا القوة البحرية للاتحاد الأوروبي التي تم إطلاقها مؤخرا للحد من هجمات الحوثيين التي شنتها الجماعة ردا على القتال في غزة".
وأضاف أنه "في الأشهر الخمسة منذ أن بدأت الولايات المتحدة وبريطانيا شن ضربات عسكرية في اليمن بدعم غير عملياتي من دول أخرى، تم تسجيل أكثر من 100 حادثة إضافية، شملت الكثير من عمليات الاعتراض البحرية لأسلحة الحوثيين".
وفي البداية، تجاهلت بعض الشركات التجارية التي تتعامل مع "إسرائيل" تهديدات الحوثيين، واستمرت في العمل في المنطقة، ولكن في نهاية المطاف، بدأت الجماعة بمحاولة شن هجمات أكثر فتكا وتعقيدا.
وعلى سبيل المثال، في 12 حزيران/ يونيو، هاجمت الحركة ناقلة بضائع سائبة باستخدام سفينة سطحية غير مأهولة، ونجحت في إلحاق أضرار جسيمة بسفينة تجارية للمرة الأولى منذ تشرين الثاني/ نوفمبر.
وقد غرقت السفينة لاحقا، وتم الإبلاغ عن وفاة أحد البحارة، ومن ثم في 13 حزيران/ يونيو، شن الحوثيون هجوما مزدوجا على سفينة شحن باستخدام ثلاثة صواريخ على الأقل، ما أسفر عن إصابة بحّار بجروح خطيرة، وأرغم بقية الطاقم على إخلاء السفينة.
وأكد المعهد أنه "في ضوء تزايد المخاطر، اقتنعت الكثير من شركات الشحن بالابتعاد عن المنطقة، ما تسبب بانخفاض حاد في عمليات العبور الإجمالية عبر مضيق باب المندب، أحد أهم ممرات الشحن في العالم، فبين 10 و16 حزيران/ يونيو، انخفضت حركة المرور عبر المضيق بأكثر من 50 بالمئة مقارنة بالأسبوع الرابع والعشرين من العام الماضي.
ومن المتوقع أن تزداد الهجمات بشكل أكبر إذا استمرت حرب غزة أو إذا صعّدت "إسرائيل" وحزب الله صراعهما في لبنان.
وأضاف أنه "على الرغم من التركيز المفهوم على التبعات البحرية والتجارية المباشرة لهذه الهجمات، ينبغي إيلاء المزيد من الاهتمام لمدى ترسخ التهديد الحوثي، وكيف يمكن أن يستخدم الحوثيون نفوذهم المكتشف حديثا لخدمة أجندات سياسية مختلفة في المستقبل. فمع أن التهديد البحري قد يتلاشى تدريجياً إذا تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، فهو لن يختفي، بل إن فعاليته في تعطيل التجارة العالمية لن تؤدي إلا إلى تشجيع الحوثيين".
"مرحلة رابعة"
وقال المعهد إنه "في 16 أيار/ مايو، بعد أيام معدودة من شن إسرائيل هجومها على رفح، حذّر زعيم الحوثيين قائلاً: سنسعى إلى تعزيز المرحلة الرابعة من التصعيد من حيث عدد الهجمات وتأثير الضربات، مؤكدا أن الغرض من الحملة هو دعم الفلسطينيين في غزة. ومنذ ذلك الحين، وسّعت الجماعة قائمة أهدافها: فإذا كان لدى شركة ما سفنٌ ترسو في الموانئ الإسرائيلية، فقد أصبحت جميع سفنها الآن عرضة للاستهداف، حتى تلك التي لا تبحر إلى إسرائيل. وفي "المراحل" الثلاث السابقة، ركز الحوثيون بشكل أساسي على السفن التي أبحرت إلى إسرائيل أو كانت لها صلات معروفة بالولايات المتحدة أو بريطانيا أو إسرائيل، مع أن الكثير من هجماتهم لم تكن تملك دوافع واضحة، أو استندت إلى معلومات غير دقيقة".
ووفقاً لما توعدت به الحركة، كانت الموجة الحالية أكثر قوة أيضا؛ فقد اعترضت القوات الغربية الكثير من محاولات الاستهداف، لكن العدد الإجمالي للهجمات لم يتوقف تقريبا منذ 23 أيار/ مايو، عندما أطلق الحوثيون صاروخا على ناقلة البضائع السائبة "يانيس" (رقم "المنظمة البحرية الدولية" 9401910) التي ترفع علم مالطا.
وعلى غرار الموجات السابقة، وقعت غالبية هذه الهجمات في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن (حيث شهد كل من المحيط الهندي وبحر العرب هجوماً واحداً مؤكداً على الأقل خلال حملة الحوثيين).
وكانت العديد من الأهداف في الموجة الحالية تابعة لشركات مقرها اليونان، ومن بينها "شركة شرق المتوسط البحرية المحدودة" ("إيست ميد") و"إيفالند" و"غريهيل". وتمتلك "إيفالند" سفينة "تيوتر" (رقم "المنظمة البحرية الدولية" 9942627)، وهي السفينة التي غرقت بعد تعرضها لضربات متكررة من سفينة سطحية غير مأهولة وأسلحة أخرى في وقت سابق من هذا الشهر. كما أصدر الحوثيون إعلانات مشكوك فيها وغير مؤكدة بتبنّي هجمات في المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط وميناء حيفا الإسرائيلي، وقد انطوت في بعض الحالات على تعاون مزعوم مع الميليشيات العراقية المدعومة من إيران.
في وقت سابق من هذا الشهر، ذكرت وزارة الدفاع الأمريكية أن الحوثيين شنوا حوالي 190 هجوماً منذ 19 تشرين الثاني/نوفمبر، لكن "حفنة قليلة فقط" نجحت في إصابة الهدف بسبب "فعالية قوات التحالف في وقف الهجمات". وفي حين تتفاوت التقييمات التي تقيس تأثير عمليات التحالف، إلا أنه لا يمكن إنكار النتائج السلبية للتصعيد الحوثي، إذ يتم استهداف المزيد من السفن، وتواصل الكثير من شركات الشحن تجنب الممرات المائية في المنطقة، ويبدو أن الحوثيين يشعرون بالقوة بدلاً من الضعف. فبعد أشهر من ضربات التحالف، ما زالوا يحددون الشروط التي يمكن للشركات بموجبها إرسال السفن إلى المنطقة وعبرها، منتهكين المبادئ الأساسية لحرية الملاحة.
وفي الوقت نفسه، تتخذ السفن التجارية التي تواصل الإبحار عبر البحر الأحمر خطوات غير عادية لتقليل خطر تعرضها للهجوم. وقد استخدم بعضها نظام التعرف الآلي الخاص بها للإشارة إلى أنه "ليس لديها أي صلة بإسرائيل"، في حين بثت أخرى رسائل مثل "كل أفراد الطاقم مسلمون" أو "جميع الطاقم سوري" أو "طاقم السفينة صيني". وبثت إحدى السفن رسالة "نفط خام روسي" بدلاً من الإشارة إلى ميناء توقفها التالي. ومع ذلك، فحتى الناقلات المحملة بالنفط الروسي تعرضت أحياناً للاستهداف، ويعود ذلك عادة إلى معلومات غير دقيقة أو قديمة حول ملكية السفينة. على سبيل المثال، تعرضت الناقلة "ويند" (رقم "المنظمة البحرية الدولية" 9252967) للاستهداف في 18 أيار/مايو بينما كانت تحمل زيت الوقود الروسي متجهة إلى الصين، كما هو مفصل في متتبع الهجمات التابع للمعهد.
في هذه المرحلة، أثبت الحوثيون أنهم قادرون على تعطيل حركة المرور بشكل كبير بين المناطق التجارية المختلفة، إذ قررت شركات عملاقة مثل "شركة البحر الأبيض المتوسط للملاحة" (MSC) و"ميرسك" تجنب جنوب البحر الأحمر. ونتيجة لذلك، انخفض حجم سفن الحاويات التي تعبر باب المندب بنحو 55 في المائة، وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن "لويدز ليست إنتليجنس". ومن بين الوجهات الأخرى المتضررة، انخفض عدد هذه السفن التي تزور ميناء الملك عبد الله وميناء جدة - أكبر مركز لإعادة الشحن في المملكة العربية السعودية، وأكبر ميناء للحاويات على التوالي - بشكل حاد في وقت سابق من هذا العام.
وفي أيار/مايو 2023، وقبل بضعة أشهر فقط من شن الحوثيين حملتهم الهجومية، أعلنت "ميرسك" عن خدمة بحرية جديدة تربط أسواق الشرق الأوسط بأوروبا وتدور بين الموانئ الرئيسية مثل جدة. ولكن بحلول كانون الأول/ديسمبر، دفعت هجمات الحوثيين شركة "ميرسك" إلى الإعلان عن تعليق حركة المرور في البحر الأحمر وإعادة توجيه السفن حول رأس الرجاء الصالح "في المستقبل المنظور".
وفي الشهر الماضي، أصدرت الشركة توقعات أكثر سوداوية: "توسعت منطقة الخطر، والهجمات تصل إلى مسافات أبعد في البحر. وقد أجبر هذا سفننا على إطالة رحلتها، مما أدى إلى هدر المزيد من الوقت وزيادة التكاليف... وإلى الاختناقات وازدحام السفن، فضلاً عن التأخير ونقص المعدات والقدرات. ونقدّر نسبة الخسارة في الطاقة على مستوى القطاع بما يتراوح بين 15 و20 في المائة في الشرق الأقصى وصولاً إلى شمال أوروبا وسوق البحر الأبيض المتوسط خلال الربع الثاني".
أما بالنسبة إلى "شركة البحر الأبيض المتوسط للملاحة"، فقد أعلنت "الهيئة العامة للموانئ" السعودية في آذار/مارس 2023 أن الشركة ستضيف جدة إلى خدمات الشحن في البحر الأحمر وشرق أفريقيا والبحر الأحمر. لكن منذ تشرين الثاني/نوفمبر، تم استهداف الكثير من سفنها بشكل مباشر. ويعتبر الحوثيون، من دون مسوغ دقيق، أن الشركة التي تتخذ من سويسرا مقراً لها هي "شركة إسرائيلية"، ويرجع ذلك على الأرجح إلى تعاونها التجاري مع شركات الشحن الإسرائيلية.
وبناءً على ذلك، سيكون من الحكمة أن تستعد السعودية وغيرها من الدول المتضررة في المنطقة لمستقبل تظل فيه بنيتها التحتية الحيوية تحت تهديد الحوثيين إلى أجل غير مسمى. فقد أصبح لدى الجماعة الآن القدرة على شن هجمات أكثر تطوراً في سياقات سياسية مختلفة تتجاوز حرب غزة، بدعم من إيران على الأرجح. على سبيل المثال، قد تقرر في النهاية استئناف هجماتها البحرية أو تصعيدها إذا بدا أن اتفاق التطبيع الإسرائيلي السعودي وشيك، خاصة إذا لم يتم حل الصراع اليمني. وحتى الآن، فضلت الرياض البقاء على الهامش وتجنب المواجهة مع الحوثيين، معتقدة أن ذلك لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة ويعرّض السفن السعودية لخطر الهجوم.
وفي الواقع، يُعتبر استقرار البحر الأحمر بالغ الأهمية لطموحات المملكة بتوسيع قطاع الخدمات اللوجستية فيها، وهذا عنصر أساسي في كل من "برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية" السعودية واستراتيجيتها الأوسع نطاقاً "الرؤية 2030". فالرياض تخطط لزيادة القدرة التنافسية لموانئها وتعزيز ترابطها الدولي على مدى السنوات القليلة المقبلة. غير أن إنشاء مركز لوجستي بحري عالمي يتطلب بيئة مستقرة، ليس في شمال البحر الأحمر فحسب حيث أطلق السعوديون مؤخراً خدمة شحن جديدة بالشراكة مع شركة "سي إم ايه - سي جي أم" الفرنسية العملاقة، ولكن أيضاً في جنوب البحر الأحمر الذي يشهد تقلبات شديدة.
ووفقاً لعض التوقعات، ستستمر حملة الهجوم الحوثية الحالية لبقية هذا العام على الأقل، وستواصل الكثير من السفن التجارية تجنب خليج عدن وجنوب البحر الأحمر حتى عام 2025 أو بعده. ويمكن لوقف إطلاق النار في غزة أن يخفف من حدة الهجمات إلى حد ما، ولكن حتى ذلك الحين قد لا يوقف الحوثيون حملتهم بالكامل. ومع أن بعض مالكي السفن قد شهدوا زيادة في أرباحهم بسبب ارتفاع أسعار الشحن، فإن التأثير العام على حركة الملاحة البحرية وسلاسل التوريد العالمية كان شديداً. وليست دول الخليج محصنة ضد هذه التأثيرات، لذلك يجب على واشنطن أن تحثها على إيجاد وسيلة دبلوماسية لوقف الهجمات، بغض النظر عما يحدث على المسارين الدبلوماسيين الأمريكيين المنفصلين في غزة ولبنان.
وختم المعهد بالقول: "يتعين على واشنطن وشركائها تضمين التهديد المحتمل بحدوث تصعيد حوثي على المدى الطويل في مخططاتهم العسكرية. وفي وقت سابق من هذا الشهر، غادرت حاملة الطائرات "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور" البحر الأحمر، حيث كانت متمركزة لمواجهة تهديدات الحوثيين منذ أواخر العام الماضي. وإذا تصاعدت الحملة الحالية بشكل أكبر، أو إذا كثفت الحركة هجماتها في المستقبل، فقد تحتاج القوات البحرية الغربية إلى نشر المزيد من الأصول لحماية السفن التجارية".
عربي21
التعليقات