كان اليمن على وشك التوقيع على خريطة طريق التسوية؛ أو على الأقل ما تم التوافق عليه منها بين أطراف النزاع في سياق الوساطتين العُمانية والسعودية، وأعلن عن ذلك التوافق المبعوث الأممي لليمن، هانس غروندبرغ، في كانون الأول/ديسمبر، إلا أن شن قوات حركة «أنصار الله» (الحوثيون) منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي هجمات على السفن المرتبطة بإسرائيل والمتجهه إليها «تضامنا مع غزة» التي تتعرض لعدوان وحشي إسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر ومن ثم السفن الأمريكية والبريطانية، وذلك «ردًا على العدوان الأمريكي والبريطاني على اليمن» وفق ما تقول الحركة؛ قد اعتبره البعض هروبًا من التزامات السلام، فيما يرى الأمريكيون، الذين يقودون تحالفاً ضد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر، أن إيقاف هذه الهجمات، التي يقولون إنها تستهدف كل السفن، ضرورة لاستئناف المضي في عملية السلام.
كان الحوثيون قد بدأوا هجماتهم البحرية قبل تاريخ إعلان المبعوث الأممي توافق الأطراف اليمنية على جملة من ترتيبات مسودة الخريطة؛ إلا أن استمرار التصعيد في البحر الأحمر قد تسبب، حسب الحكومة المعترف بها، في عرقلة الذهاب نحو التوقيع على الخريطة.
فمن المسؤول عن عرقلة استكمال التوقيع على الخريطة؟ هل هم الحوثيون بتصعيدهم في البحر؟ أم أن واشنطن تمارس ضغطاً على الحوثيين باستخدام ورقة السلام مقابل إيقاف الهجمات في البحر الأحمر؟
يرى رئيس مركز مسارات للدراسات الإستراتيجية والإعلام بعدن، باسم الشعبي، أن المسؤول عن عرقلة استكمال التوقيع على خريطة الطريق هي «أمريكا ومن خلفها الرباعية، خصوصا بعد أحداث غزة تم تأجيل الملف اليمني، ثم أن الشرعية ومكوناتها غير راضين عن الخريطة، ولكن سيقبلونها على مضض؛ لأنها طُبخت بعيدا عنهم، ولم يتم استشارتهم أو إشراكهم في الكثير من الأمور الجوهرية».
وأضاف لـ«القدس العربي»: «بالنسبة للهجمات البحرية هي مرتبطة بعملية السلام من ناحية أن أحد الأطراف المهمة فيها، وهو الحوثي منخرط في هذه المعركة وضد رعاة السلام أنفسهم أمريكا وبريطانيا الرعاة الدوليين، وبالتالي لا يمكن استئناف عملية السلام في تصوري، إلا بوقف معركة البحر ووقف حرب غزة؛ لأنهما مرتبطتان ببعض، ومن ثم يمكن بعد ذلك الحديث عن عملية سلام».
بلا شك إن المبعوث الأمريكي لليمن، تيم ليندر كينغ، قد أكد في أكثر من تصريح صحافي صعوبة المضي في مسار السلام مع استمرار التصعيد الحوثي البحري، مؤكدا في ذات الوقت أن الحل في اليمن ما زال حلا سلميا، وفي المقابل صدر أكثر من تصريح من قيادات في حركة «أنصار الله» خلال آذار/مارس تطالب فيه الرياض بالمضي بجهود السلام في اليمن، وصولاً إلى إتهام السعودية بالمراوغة في هذا الأمر، فيما تتهم الحكومة اليمنية المعترف بها الحوثيين بالهروب من التزامات السلام والتسوية إلى الهجمات في البحر الأحمر؛ نافية أن تكون هناك علاقة للهجمات بغزة.
ليبقى السؤال: ما علاقة الهجمات البحرية بعملية السلام؟ الإجابة مرتبطة بقراءة منصفة لما يريده اليمن ممثلاً في قياداته وسلطاته المتحكمة في إدارة شؤونه والمتناحرة في ذات الوقت على السلطة. إذ أن مفاوضات التسوية التي قادتها سلطنة عُمان بين الحوثيين والرياض وصولاً إلى تبادل الزيارات، وعقد أكثر من جولة مباحثات انتهت بتوافق سعودي حوثي على مختلف نقاط الاختلاف، وخاصة فيما يتعلق بالمرحلة الأولى المرتبطة بوقف كلي لإطلاق النار وصرف المرتبات وفتح الطرقات والموانئ والمطارات وإطلاق الأسرى، وما من شأنه البناء عليه وصولاً إلى تنفيذ المرحلة الثانية، ومن ثم المرحلة الثالثة، وإن كانت معوقات كثيرة، يرى مراقبون أنه قد يتعثر معها تنفيذ الاتفاق، وخاصة في مرحلتيه الثانية والثالثة؛ وتحديدًا ما له علاقة بشكل الدولة وترتيب وضع القوات المسلحة، في ظل ما أفرزته الحرب من تكوينات مسلحة مرتبطة بمشاريع ممولة خارجيا.
إلا أن ثمة تفاؤلا ما زال قائمًا يسنده إصرار سعودي على طي صفحة الحرب، وإحلال السلام في اليمن، كما أن السعودية تمسك بخيوط كثيرة من خيوط الحل والملف اليمني، وبالتالي فمن الطبيعي أن تستكمل المضي في هذا الطريق في حال قررت ذلك بصرف النظر عن ما يشهده البحر الأحمر وفق بعض المتابعين.
وهنا يقول الشعبي: «في حال حدثت تطورات داخلية يمنية مهمة بالإمكان أن يتوصل اليمنيون بأنفسهم إلى اتفاقات تنهي الحرب، وتضع حدا لها، وتعيد إحياء عملية السلام من جديد بمشاركة إقليمية. أو أن الأمور قد تتخذ منحى آخر نحو تحقيق السلام بالحسم العسكري».
وحسب مصادر مطلعة فقد شهدت مسقط خلال رمضان عقد عدة لقاءات سعودية حوثية بشأن الترتيب لما يمكن عمله للمضي في استكمال التوقيع على خريطة الطريق، ولم تفصح المصادر عما تم التوصل إليه؛ إلا أنه كان من المتوقع- بناء على محادثات مسقط غير المعلنة- أن تستضيف صنعاء جولة جديدة من المباحثات بين الحوثيين والسعودية خلال أواخر رمضان إلا أنها لم تتم.
عودا على بدء؛ فما يشهده البحر الأحمر مشكلة مختلفة لا علاقة لها بمسار السلام في اليمن كما يرى أحدهم، فيما يرى آخرون أن التسوية تتطلب التزامًا يتوقف معه كل أشكال العمل العسكري سواء كان موجها للداخل أو الخارج؛ باعتبار أن المرحلة الثانية من التسوية لن يكون القرار فيها مرتبطًا بسلطات الحرب المتعددة بل بسلطة واحدة عوضًا أن المرحلة الأولى من الاتفاق تتضمن وقفا كليا لإطلاق النار في كافة الأراضي اليمنية؛ فيما يرى ثالث أن الهجمات في البحر الأحمر تنطلق من منطلق إنساني وأخلاقي وديني في نصرة غزة، وبالتالي فمن يتضرر من هذه الهجمات هم المتواطئون مع إسرائيل؛ والذين يتبنون موقف المبعوث الأمريكي.
هنا نسأل؛ لماذا لا تستخدم الولايات المتحدة القدرات العسكرية التي باتت تتحكم بها في البحر الأحمر في صد هذه الهجمات، وبالتالي إيقافها؟ أم أن الإدارة الأمريكية باتت تدرك جيدا بعدم جدوى الصد العسكري الذي تطور إلى شن ضربات صاروخية وغارات جوية في العمق اليمني، في مواجهة هجمات الحوثيين؛ وانطلاقًا من ذلك تستخدم ورقة السلام وسيلة من وسائل الضغط على الحوثيين؟
وكانت واشنطن أصدرت في شباط/فبراير الماضي قرارًا بإدراج حركة «أنصار الله» ضمن قائمة الإرهاب الأمريكية، في تصعيد قد يسهم في تعقيد جهود التسوية، لكنه كما يقول المبعوث الأممي الخاص لليمن، هانس غروندبرغ، لن يكون ذا تأثير على جهود الوساطة الأممية، التي هي تمضي وما زالت مستمرة؛ لكنه قال إن تأثير القرار سيمس القطاع الاقتصادي أكثر في ظل واقع معيشي يمني متدهور مع تدن في مؤشرات تمويل برامج الإغاثة الإنسانية.
بالنظر إلى الواقع الراهن نؤكد أن الحرب على غزة قد ألقت بظلالها على كثير من الأحداث في المنطقة؛ بما فيها عملية السلام في اليمن، وتسوية الوضع وإنهاء العدوان الإسرائيلي على غزة من شأنه أن يفرغ جميع الحجج، التي يقدّمها أطراف النزاع والمبعوث الأمريكي من قيمتها؛ وبالتالي سيتوقف التصعيد في البحر الأحمر، وهناك ستكون الحكومة والحوثيون وجهًا لوجه أمام التزامات المضي في عملية السلام التي قطعت خلال السنوات الماضية شوطًا طويلاً، وصارت قاب قوسين أو أدنى من التوقيع على خريطة الطريق، وخاصة الترتيبات ذات العلاقة بالجانب الإنساني. وفي حال تحقق ذلك فسيمنح اليمنيون جرعة تفاؤل كانوا قد فقدوا الأمل في الحصول عليها في ظل ما يجدوه من تجاهل أطراف النزاع لمعاناتهم التي فتكت وتفتك بالكثير منهم فقرًا وعوزًا ومرضًا صار معها بعض من كانوا مسؤولين كبارا في الدولة قبل الحرب ينزلون للشارع للتسول بعدما ضاقت بهم الحال، بل إن أساتذة جامعيين لجأوا للعمل في مهن لا علاقة لها بتخصصاتهم؛ كالعمل سائق باص بالأجرة أو سأئق تاكسي أو العمل مدرسًا في مدارس خاصة، بعائد بالكاد يغطي الاحتياجات الضرورية لأسرهم؛ فيما لجأت أعداد كبيرة من معلمي المدارس للعمل في أعمال شاقة كحمل الأحجار وأعمال البناء. هذه القصص صارت في كل مدينة وقرية ترافق نعوش الموت التي باتت تشيع يوميًا الكثير من اليمنيين ممن قضوا عوزًا وقهرًا.
مَن ينتظرون السلام هم أولئك الآباء والأمهات الذين ينتظرون أبنائهم وآبائهم المغيبيّن والمخفيين قسرًا في السجون منذ سنوات طويلة، وبالتالي ينتظرون اتفاق السلام الذي يطلق جميع الأسرى من السجون والمعتقلات، ويجمعهم بعائلاتهم وأبنائهم في صورة غير مسبوقة من صور المأساة الإنسانية. مَن ينتظرون السلام هم أولئك الذين يتضورون جوعًا داخل منازلهم بعد انقطاع صرف مرتباتهم، ولا يسألون الناس إلحافا، وتجد بعضهم تحت هذا الواقع المرير بات يكتفي بوجبة واحدة مع أطفاله في اليوم. مَن ينتظرون السلام هم أولئك الذين فقدوا القدرة على الذهاب للمشفى، وأصبح الموت يترصدهم، وهو ما ارتفعت معه مؤشرات وفيات الأمهات أثناء الولادة ووفيات المواليد علاوة على إتساع مؤشرات التقزّم وسوء التغذية الحاد لدى الأطفال؛ وقبل ذلك وأخطره هم أولئك الذين اضطرتهم الظروف لعدم إرسال أولادهم للمدارس، وارتفاع أعداد المتسربين من فصول التعليم، حتى باتوا يتجاوزون أربعة ملايين طفل.
التعليقات