لم تنجح تطمينات الحوثيين ونفيهم أنباء أشارت إلى احتمال إقدامهم على تخريب كابلات الاتصالات التي تمر في أعماق البحر الأحمر، في تهدئة المخاوف من احتمال توسيع الجماعة المدعومة من إيران لبنك أهدافها ليشمل هذه الخطوط الحيوية. وفيما حذرت تقارير لمراكز بحثية ومؤسسات إعلامية دولية من أن الخطر حقيقي وجاثم، قال مراقبون حاورتهم فرانس24 إن هذه البنية التحتية البحرية ليست أصلا في متناول الحوثيين.
لا تزال منشورات محسوبة على الحوثييين في اليمن تُتداول بشأن كابلات الاتصالات العالمية التي تمر عبر البحر الأحمر، مثيرة مخاوف من إقدام الجماعة على استهدافها في سياق الحرب بين إسرائيل وحماس.
وكانت تلك الحسابات قد تداولت في 24 ديسمبر/كانون الأول سلسلة منشورات على منصات التواصل مرفقة بصور لكابلات الاتصالات البحرية، ما أثار المخاوف من احتمال تعرضها للهجوم.
في المقابل، سارع الحوثيون إلى نفي تلك الأنباء عبر شركة تيليمن للاتصالات اليمنية التي باتت تديرها، فجاء في بيان أن "كل ما يروج له مؤخرا عن مزاعم تهديدات للكابلات البحرية هو أكاذيب مفبركة". وفندوا في نفس البيان "وجود تهديدات تجاه الكابلات البحرية المارة من باب المندب"، مؤكدين الحرص الشديد "على تجنيب خطوط وكابلات الاتصالات وخدماتها أي مخاطر".
الكابلات البحرية.. ساحة جديدة لمعارك "المنطقة الرمادية"
في هذا السياق، يشرح د. محمد صالح الحربي، خبير عسكري واستراتيجي ولواء أركان حرب سابق، في تصريحات لفرانس24 بأن شرايين الاتصال الرئيسية العالمية تمر عبر قاع المحيط الهندي ومياه بحر العرب قادمة من الهند، على طول سواحل شبه الجزيرة العربية وصولا إلى البحر الأحمر وقناة السويس ومن ثم البحر الأبيض المتوسط وشواطئ أوروبا. ويوضح: "من المعروف أن ما لا يقل عن 95 بالمئة من البيانات والاتصالات الدولية تمر عبر أعماق البحار. موضوع الاتصالات مهم للغاية لأنه يمثل أمن المعلومات العالمية وخدمات المواطنين في كافة القارات. كما أن البحر الأحمر يضمن التواصل بين الشرق والغرب بما في ذلك الاتصالات والإنترنت وما شابه".
في نفس الشأن، قالت مجلة فورين بوليسي الأمريكية إنه وفيما كانت جل المخاوف منصبة على تأثير هجمات الحوثيين على سفن تعبر الممر البحري الاستراتيجي، بما في ذلك "الشحن التجاري وتدفقات الطاقة عبر نقطة العبور الرئيسية بين قناة السويس والمحيط الهندي"، فإن القلق اليوم بات يركز على التهديدات المحتملة للبنية التحتية تحت سطح البحر الذي تحول خلال السنوات الأخيرة، إلى "ساحة معركة المنطقة الرمادية، حيث ترعب سفن الأشباح الروسية جيرانها في بحر البلطيق وبحر الشمال".
وضربت نفس المجلة مثالا "حادث تفجير خط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 بين روسيا وألمانيا بشكل غامض (وتضرر خط نورد ستريم 2)"، وأيضا إلى "تعرض خطوط الطاقة والبيانات في شرق بحر البلطيق لأضرار في ظروف غامضة خلال الخريف الماضي". ولفتت إلى حوادث أخرى طالت شبكة اتصالات البيانات بالبحر الأبيض المتوسط.
وبالنسبة إلى البحر الأحمر، لحظت فورين بوليسي وجود "كميات هائلة من البيانات والأموال التي يتم تناقلها بين أوروبا وآسيا عبر حزمة من كابلات الألياف الضوئية التي تمتد عبر المنطقة التي ينشط فيها الحوثيون بشكل أكبر". وتابعت بأن "أكثر من 99 بالمئة من الاتصالات العابرة للقارات تمر عبر الكابلات البحرية، وهذا لا يقتصر على الإنترنت بل يشمل أيضا المعاملات المالية والتحويلات بين البنوك. كما أن الكثير من إدارات الدفاع تعتمد على الكابلات أيضا".
"الضحية القادمة للهجمات في البحر الأحمر"
من جانبه، نشر موقع منتدى الخليج الدولي ومقره واشنطن، مقالا تحت عنوان: "الضحية القادمة للهجمات في البحر الأحمر: الكابلات البحرية"، جاء فيه أنه وبعد فشل الضربات الأمريكية البريطانية في ثني الحوثيين عن شن الهجمات، فإن الجماعة "قد تقوم بتعديل استراتيجيتها واستهداف هدف جديد، وربما أكثر أهمية: شبكة كابلات الاتصالات تحت البحر التي تمر عبر مضيق باب المندب".
وقالت صاحبة المقال إميلي ميليكين إن ما يدعو أكثر إلى القلق لدى دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة وحلفاء واشنطن، هو أن "تخريب هذه الكابلات قد يؤدي إلى قطع الاتصالات العسكرية أو الحكومية. حيث أن الكابلات هي من سبل تمرير بيانات أجهزة الاستشعار العسكرية التي تُخطر بالعمليات الجارية. وفي السنوات المقبلة، في ظل تطور تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، سوف تتزايد كمية البيانات المطلوبة لدعم العمليات العسكرية المتقدمة".
وأضافت ميليكين بأن "اليمن يقع عند منعطف حرج بالنسبة لهذه البرقيات. وبقدر ما يعمل باب المندب كنقطة تفتيش لحركة المرور البحرية فوق الأمواج، فإن المنطقة هي واحدة من ثلاث "نقاط اختناق" (chokepoints) للكابلات في العالم، ما يجعل من التهديدات لهذه البنية التحتية مصدر قلق خاص للقوى العظمى مثل الصين والولايات المتحدة، التي تتنافس أصلا للسيطرة على شبكة الكابل تلك".
"ترسانة الحوثيين لا تشكل خطرا فعليا"
لكن هل للحوثيين القدرة على استهداف كابلات تمر في أعماق البحار؟ يستبعد تقرير موقع منتدى الخليج الدولي أن تكون الجماعة قادرة أصلا على الوصول إلى الكابلات، لأسباب منها عدم امتلاكهم للغواصات اللازمة، وافتقارهم للقوة البحرية المدربة لتنفيذ عملية دقيقة بهذا الشكل.
رغم ذلك، لا تنفي إميلي ميليكين في نفس الوقت إمكانية تكييف الحوثيين لبعض تكتيكاتهم البحرية لاستهداف البنية التحتية الحيوية للاتصالات. فتلحظ أن "مياه الخليج الضحلة والتي يبلغ عمقها 100 متر فقط تقلل من الحاجة إلى غواصات عالية التقنية لإنجاز المهمة. ففي 2013 قُبض على ثلاثة غواصين في مصر لمحاولتهم قطع كابل تحت البحر قرب ميناء الإسكندرية ينقل الإنترنت بين أوروبا ومصر". وتخلص الباحثة إلى أن بإمكان الحوثيين "الذين خضعوا لتدريب الغواصين القتاليين استخدام طريقة مماثلة للهجوم، كما لديهم ترسانة من الألغام البحرية التي يمكنهم من خلالها إتلاف الكابلات".
في نفس السياق، نقلت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية (في مقال ذكرناه أعلاه) عن بروس جونز من معهد بروكينغز الذي تركز الكابلات البحرية اهتمامه، قوله إن "ترسانة الحوثيين لا تشكل خطرا فعليا على الكابلات البحرية. إذا كنت تريد بالفعل إتلاف هذه الأشياء، فسيتعين عليك الذهاب إلى قاع البحر".
يوضح د. محمد صالح الحربي من جانبه بأن الحوثيين لا يملكون القدرة التقنية والفنية والعسكرية والأمنية لضرب هذه الكابلات". مضيفا: "من ناحية أخرى، فإن هذا الموضوع يعتبر خطا أحمر، حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها المجتمع الدولي سوف تتكالب على الحوثيين أو حتى على إيران وداعميها، (في حال تم استهداف الكابلات). ومن ثم، فأنا أعتقد أن هذه هي مجرد دعاية سياسية وإعلامية وعسكرية لا تُقدم ولا تؤخر".
"تخريب الكابلات البحرية خيار ممكن ولكن أخير للحوثيين"
بدوره، قال د.عمر الرداد خبير أمني واستراتيجي لفرانس24 إن الحوثيين لطالما أعلنوا مرارا أن "لديهم خرائط للكابلات البحرية في مضيق باب المندب وأرسلوا إشارات حول إمكانية استهدافها وقطعها. لكن القيام بهذا هو عملية تحتاج لقرارات قيادية تأخذ بعين الاعتبار عدة متغيرات. فمن غير الواضح إذا ما كان سيقدم الحوثيون على مثل هذه الخطوة، لا سيما وأن الهجمات التي يقومون بشنها على سفن تجارية في البحر الأحمر تحقق إلى حد كبير أهدافهم".
يضيف الرداد بأن تخريب الكابلات البحرية من المرجح أن يكون خيارا أخيرا بالنسبة إلى الحوثيين في حال تحقيق الضربات الأمريكية والبريطانية ضدهم أهدافها. ويلحظ الرداد بأن "قرار التخريب يرتبط أصلا بمعطى آخر وهو إذا ما قررت إيران الذهاب لهذا الخيار. عمليا، ورغم ما تبدو عليه عملية من هذا النوع من التعقيد والصعوبة، إلا أن لدى الحوثين وبدعم من المستشارين الإيرانيين إمكانية لتنفيذها. وبالتالي ستبقى هكذا عملية رهينة للقرار الإيراني، الذي تدل الكثير من المؤشرات بأنه يذهب بالعكس في اتجاه التهدئة".
في نفس الموضوع، أشار ناجي ملاعب باحث عسكري واستراتيجي في تصريحات لفرانس24 بأن تعرض كابلات الاتصالات في البحر الأحمر إلى التخريب هو "طبعا أمر وارد بالتأكيد لدى أنصار الله طالما أنهم لم يحترموا أي قوانين دولية لمنع التجارة البحرية. لكن لا أعتقد أن يقدموا على مثل هكذا عمل إذا لم يتضرروا من العقوبات، التي لم تطل لحد الآن سوى أشخاص في صفوف الحوثيين. لكن في حال وصلت العقوبات إلى حد قطع شبكة الإنترنت عن الحوثيين، فمن الممكن أن يقدموا على هذا العمل كرد فعل، وليس كعمل سيبادرون إليه دون أن يتضرروا في الأساس من هذا الجانب".
"قطع الكابلات أو تخريبها، موضوع خطير جدا وخط أحمر"
وفي حال أقدم الحوثيون أو أي جهة محسوبة على إيران أو حتى الأخيرة نفسها، على استهداف كابلات الاتصالات العابرة لمياه البحر الأحمر، فكيف ستكون التداعيات؟ يلحظ د. صالح الحربي بأن إيران تملك ما لا يملكه الحوثيون أي القدرات الفنية أو التقنية. لكنه يحذر من أن "عملية تخريب أو تفجير أو إرسال مواد متفجرة إلى أعماق معينة لقطع الكابلات أو تخريبها، هي موضوع خطير جدا ويعي الإيرانيون والحوثيون نتائج أي عمل من هذا النوع".
يضيف الخبير العسكري والاستراتيجي بأن الولايات المتحدة "شكّلت القوة 153 لأمن البحار بمشاركة ثمانية دول. لكن هناك أيضا الأسطول الأمريكي الخامس الذي يفتح مظلته لأكثر من 40 دولة في الشرق الأوسط والذي سيكون له دور فاعل" في حال وقع مثل هذا الحادث.
كما يقول د.صالح الحربي إن "واشنطن أعطت الحوثيين فترة شهر تبقى منها أسبوع قبل أن تدرجهم ضمن قوائم الترقب والإرهاب وهذا سيشكل ضغطا قويا على إيران وأذرعها بالمنطقة. الأسبوع الفائت كانت هناك ضربات أمريكية قوية على أكثر من 85 هدفا في شمال شرق سوريا ومناطق في العراق، فما زالت الولايات المتحدة تمارس أسلوب العباءة والخنجر، أي مناورات سياسية يقابلها مناورات عسكرية متزامنة".
للإشارة، فإن الهجمات في البحر الأحمر تعرقل حركة الشحن وهي تجبر شركات على تغيير مسارها للقيام برحلات أطول وأكثر تكلفة حول جنوب أفريقيا، كما أنها تثير المخاوف من أن نطاق الحرب بين حماس وإسرائيل قد يتسع ليزعزع استقرار منطقة الشرق الأوسط بالكامل.
وبدأت الولايات المتحدة وبريطانيا قبل شهر قصف أهداف للحوثيين في اليمن ردا على تلك الهجمات.
ومنذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، تستهدف الجماعة المتحالفة مع إيران سفنا بطائرات مسيّرة وصواريخ فيما تصفها بأنها تحركات للتضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة.
هذا، وحذّر صندوق النقد والبنك الدوليين الإثنين من أن الحرب في غزة والتصعيد المرتبط بها والذي يؤثر على حركة الشحن في البحر الأحمر المؤدي إلى قناة السويس، يشكلان تهديدا للاقتصاد العالمي.
التعليقات