ما نهض به الشاعر الراحل عبد العزيز المقالح بمفرده في اليمن يعادل ما ينهض به في العادة جيل كامل من المثقفين في بلاد أخرى. فالفقيد حمل على امتداد عقود مشروعاً تنويرياً متكاملاً قائماً على مواكبة التقدم في مختلف مجالات المعرفة وعلى تكريس مبادئ الحداثة وقوانينها وعلى خلق جيل من الأكاديميين مؤمن بقيم العقلانية في الدراسة والبحث، لكن أهم إنجازات الرجل قد تجلت في المجال الشعري. فالرجل كان من أبرز الشعراء العرب الذين خرجوا على السنة الشعرية واسترفدوا منجزات القصيدة التفعيلية متأثرين بخطى شعراء الحداثة الأولى في محيط ظل متمسكاً بالقصيدة الأم يديرها على الأغراض القديمة.
بدت تجربة المقالح وكأنها خلاصة التجربة الشعرية الحديثة في تمردها على القوالب الشعرية القديمة وتوقها إلى خلق قصيدة شعرية جديدة ترهف السمع للحظة التاريخية بكل ما تنطوي عليه من أسئلة وهواجس، لكن ما تنبغي الإشارة إليه أن قصيدة المقالح ظلت مع ذلك مختلفة عن قصائد الشعراء الآخرين، تقول تجربتها بطريقة مخصوصة. ثمة في هذا التجربة غنائية لم نألفها في الشعر الحديث، ثمة احتفاء بالإيقاع، وثمة خاصة استدعاء للغة وجدانية متحدرة من التراث القديم، أي إن المقالح طبع "حداثته" ببعض الخصائص التي جعلتها مختلفة عن الحداثات الأخرى.
شاعر ملتزم
عندما نشر المقالح قصائده الملتزمة في السبعينيات بدت على انخراطها في تيار الشعر الحديث ذات نبرة مخصوصة فيها تأثر واضح بقصيدة الرواد، ولكن فيها أيضاً ظلال ذاتية لا تخفى عن القارئ. صحيح أنها كانت شديدة الانهماك في الواقع، لكنها لم تكن تعبيراً عن حقائق الوقائع فحسب، بل كانت تعبيراً عن حقائق الواقع، وقد امتزجت بحقائق النفس.
كان الإحساس بالخلل ينتاب كل شيء عبر إيقاع متواتر في قصائد المقالح، ولهذا تحولت الكتابة عنده إلى طريقة نقد للحياة ومحاولة لتقويم ما اختل من أمرها. فالشعر هنا ذو طبيعة "وظيفية"، فهو لا يكتفي بتأويل العالم، وإنما يسعى إلى الفعل فيه يلجم فوضاه ويعيد إليه توازنه المفقود.
هذه الطبيعة الوظيفية للشعر تقتضي الإبانة حتى يكون هذا الشعر قادراً على "إنهاض النفوس" إلى الفعل، على حد عبارة القرطاجني. والإبانة هي قرينة الوظيفة التعبيرية للشعر، حيث تصبح اللغة وسيطاً شفافاً تبين عما تحمله وتخبر عنه. وبسبب من هذا توقى هذا الشعر الاستعارات البعيدة والرموز الغامضة واستدعى الصور المألوفة التي تفرض على المتقبل أن يحملها على ظاهرها فلا يعدل بها عنه.
لكن ينبغي أن نسارع إلى القول إن هذه الوظيفة المرجعية لا تنفي عن هذا الشعر وظيفته الإنشائية، وهي الوظيفة التي تؤمن له أدبيته وتخرجه مخرجاً فنياً. وبعبارة أخرى نقول إن علاقة هذا الشعر بالواقع ليست علاقة كنائية أي علاقة تجاور وإرداف، وإنما هي علاقة استعارية أي علاقة تفاعل وحوار. النص الكنائي يظل على علاقة وطيدة بالمرجع موصولاً به وصل تماس وترابط، أما النص الاستعاري فإنه ينفصل عن المرجع ليؤسس كيانه المستقل وهويته الخاصة.
الفتنة بالمكان
لكن أهم ما بمكن ملاحظته افتتان المقالح بالمكان (اليمن) على رغم توجهه القومي الواضح، هذا الافتتان جعله يضخ جذع القصيدة العربية بماء الأساطير اليمنية، ورموزها وأقنعتها، فمنذ ديوانه الأول "لا بد من صنعاء" الصادر عام 1971 عمل المقالح على تكريس نبرة يمنية في موسيقى الشعر العربي الحديث، متكئاً على تراث اليمن وتاريخه في صياغة استعاراته وصوره ومجازاته.
ولعله من المفيد أن نشير إلى أن هذا الديوان يضم قصائد شعرية أنجزها الشاعر قبل نشر الديوان بسنوات كثيرة، وتداولتها الألسن قبل طباعته، وتناقلتها الصحف ووسائل الإعلام. يقول المقالح عن علاقة الديوان بالمكان إنه ينبغي الاعتراف بأن مدينة صنعاء "كانت مصدر إيحاء وإدهاش"، ثم يتحدث عن علاقته بها فيقول، "كثيراً ما تستدعيني هذه المدينة لأعيش معها لحظات توحد وإنصات لصوت التاريخ وهو يمر بالأحياء القديمة ويوزع بعدل لمساته السحرية على الأبواب والنوافذ والشرفات".
لكن صنعاء (واليمن عامة) لم تكن حاضرة في هذا الديوان فحسب، بل كانت حاضرة في كل الدواوين، ويكفي أن نستعرض عناوين مجموعاته حتى نقف على هذه الفتنة بالمكان منها، "مأرب يتكلم" 1972، و"رسالة إلى سيف بن ذي يزن 1973، و"هوامش يمنية على تغريبة ابن زريق البغدادي" 1974، "عودة وضاح اليمن"، 1976 "كتاب صنعاء" 1999.
كان اليمن "رمز الرموز" في كل أعماله الشعرية ومنه تتفرع بقية الرموز، حاملة في تضاعيفها روائحه وجباله وتاريخه، فقد التبس هذا البلد في قصائده بالطفولة وبالأساطير السبئية حيناً، وبالقيم الإنسانية الكبرى حيناً آخر، لكن صورة اليمن "السحرية" انطفأت في أعمال المقالح الأخيرة لتفسح المجال لصورة أخرى قاتمة، حزينة، هي صورة اليمن الذي يكابد ويلات الحرب.
الحنين إلى اللامكان
في ديوانه البديع "يوتوبيا وقصائد للشمس والقمر"، وهو آخر دواوينه، تبسط صنعاء ظلالها على كل قصائد الديوان بحيث ترهف اللغة وتشف لتصبح ضرباً من الشعر الخالص، لكن المكان الجغرافي الذي عرفه الشاعر بدا بعيداً، بعيداً جداً، يسعى من خلال القصائد إلى استرجاعه دون جدوى. هذا المكان تحول، بفعل الحرب، إلى ضرب من اليوتوبيا. وهذه العبارة تعني في اللغة اليونانية "اللامكان"، واللامكان يشير إلى المدينة المستحيلة، المدينة الحلم أو إذا استخدمنا عبارة أفلاطون المدينة الفاضلة، أو الفردوس المفقود، والجنة الضائعة. وباستدعائه هذا المكان الضائع تنداح الذكريات الماضي ويأخذ بعضها برقاب بعض، "شوقي لضوء مقيلكم/ ينداح أنهاراً وأسئلة/ وتحملني أغانيه/ على سفن مزركشة/ إلى يوتوبيا الفرح المقدس/ والسلام".
يلجأ المقالح في هذ الديوان إلى لغة مفعمة بالرموز الصوفية، والأقنعة العرفانية، فالشاعر وهو يستعد إلى العروج إلى السماء يستعيد ذكرى أحبابه الذين ارتحلوا واحداً واحداً ويلقي عليهم التحية، "الصديق الذي كان يؤنس/ وحشة مجلسنا بالأحاديث والشعر/ غادرنا فجأة/ لم يقل: أيها الأصدقاء وداعاً".
هذا النوع من الشعر يذكرنا بأن المقالح ما فتئ يولي اللغة كل عنايته ويعمل على خلق أسلوبه المخصوص، مستدركاً على تيار أدبي جعل الشعر، الذي هو في الأصل مفارق للواقع، مطابقاً له. مدونة المقالح أثبتت أن النص الشعري خطاب مستقل بنفسه غير مفتقر لغيره، له خصائصه المتميزة وآلياته الفاعلة وطرائقه في إنشاء الكلام مختلفة.
تؤكد قصائد المقالح أن الشعر ليس الانفعال، وإنما هو تحويل الانفعال إلى شكل، أي إلى طريقة في القول مخصوصة، أي إلى كتابة على غير مثال سابق. أضف إلى ذلك أن هذه القصائد كانت كتابة فريدة لتاريخ الروح اليمنية المتطلعة إلى عالم أكثر نقاءً وأقل قتامة.
ولد الشاعر عبدالعزيز المقالح عام 1937 في قرية المقالح بمحافظة إب وحصل على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة عين شمس. تقلد عديداً من المناصب، منها رئيس جامعة صنعاء ورئيس مركز الدراسات والبحوث ورئيس المجمع العلمي اللغوي ومستشار الدولة للشؤون الثقافية. أصدر نحو 15 ديواناً شعرياً إلى جانب عدد من الأعمال النقدية والدراسات الفكرية والمقالات.
التعليقات