يعاني أطفال اليمن من أعراض اضطرابات ما بعد صدمة فقدان الوالدين، التي تهدد بشكل خاص مَن أُعدم آباؤهم أو ينتظرون تنفيذ الحكم، وتصفهم الأمم المتحدة بـ"الضحايا الخفايا"، بينما تفاقم الحرب والأوبئة تداعيات النكوص النفسي.
- لم يستطع الطفل اليمني أحمد علي الهروب من لقبَي "ابن القاتل" و"المجرم" اللذين لاحقاه منذ إعدام والده داخل السجن المركزي في صنعاء، لإدانته بقضية قتل نهاية عام 2010، حتى أقدم في أواخر عام 2017 على طعن زميل له كان يشجع رفاقه في المدرسة على نعته بتلك الأوصاف، كما تقول شقيقته الكبرى كريمة علي، التي انقطعت عن دراستها منذ إعدام والدها، وتعيل أسرتها عبر بيع اللحوح والملوج (نوعان من الخبز).
ودفعت معاناة أطفال المحكومين بالإعدام، ومن بينهم أحمد وكريمة، مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إلى وصفهم بـ "الضحايا الخفايا"، بحسب ما انتهت إليه حلقة نقاشية عُقدت في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بشأن حقوق الأطفال المتأثرين بالحكم أو إعدام الوالدِين فعلياً، إذ يعانون من صدمة بسبب الفقدان الذي تتفاقم تبعاته، لأنهم غالباً ما يُتركون بلا دعم من أي نوع، وبلا منزل أو مقدمي رعاية أو تعليم، وكثيراً ما يواجهون الإذلال والتمييز داخل مجتمعاتهم المحلية، وهو ما يوثقه تحقيق "العربي الجديد" عبر تتبُّع 7 حالات لأطفال عايشوا تجربة إعدام والدِيهم، دون أن تتلقى أسرهم أي مساعدة من جهات حكومية أو غير حكومية، في ظل الافتقار إلى جهة متخصصة تهتم بقضايا هؤلاء الأطفال وتتفهم احتياجاتهم باعتبارهم ضحايا، كما تقول المحامية نسيم المهدلي التي ترافعت في العديد من قضايا الإعدام.
وينسحب ما عاناه هؤلاء على أطفال وأسر 17 شخصاً نُفذ بحقهم حكم الإعدام في عام 2021 بصنعاء، مقارنة بثلاثة أحكام إعدام نفذت عام 2020، و7 أحكام عام 2019، و5 في عام 2018، وحكمين في عام 2017، بحسب ردّ النيابة العامة في صنعاء على "العربي الجديد"، بينما بلغ مجموع حالات الإعدام القضائية التي وثقها الباحث والمدون البريطاني ريتشارد كلارك 140 حالة خلال الفترة منذ عام 2008 وحتى عام 2021، وفق ما نشره على الموقع الإلكتروني لمنظمة capital punishment uk (تعنى بتوثيق حالات الإعدام حول العالم).
آثار اضطراب ما بعد الصدمة
تشبه المعاناة والإهمال الذي يواجهه الأطفال الذين فقدوا أحد والدَيهم نتيجة الإعدام، نظراءهم ممن فقدوا أحد الوالدَين لأسباب أخرى كالوفاة أو الانفصال أو ظروف الحرب الدائرة في البلاد منذ سبع سنوات، بحسب الأمينة العامة للمجلس الوطني للأمومة والطفولة، أخلاق الشامي، مشيرة إلى أن جميعهم يواجهون عواقب عجز الأنظمة واللوائح والقوانين المرتبطة بالحماية الاجتماعية، قائلة: "هناك برامج موجهة للأطفال تطبقها الجهات الحكومية المعنية حالياً، لكن هذه البرامج لا تزال دون المستوى المطلوب، ولا سيما المخصصة لتلك الشريحة من المجتمع".
لكنها في الوقت نفسه ترفض حصر الحديث عن الأطفال اليمنيين الذين فقدوا أحد والدَيهم أو كليهما نتيجة الإعدام، ووصفهم بالضحايا، لكون عقوبة الإعدام بحق أحد والديهم نُفِّذَت بموجب الشرع والقانون والدستور، إلى جانب وجود عشرات الآلاف من الأطفال اليمنيين الذين فقدوا ويفقدون يومياً آباءهم أو أمهاتهم بسبب الحرب والحصار الاقتصادي والأوبئة، على مدى سبع سنوات، وهو ما ترفضه الدكتورة لينا العبسي، أستاذة علم الاجتماع في كلية العلوم الإدارية والإنسانية بجامعة العلوم والتكنولوجيا في صنعاء، مؤكدة أن عدم توفير الرعاية لهؤلاء الأطفال ينذر بانخراطهم في الجريمة.
17 حكماً بالإعدام نُفذت في صنعاء خلال العام الماضي
وبالفعل، لم يحتمل أحمد ظروف العوز والحرمان والنبذ التي عاشها منذ إعدام والده، إذ اضطر إلى ترك مدرسته ليعمل بائع ألعاب متجوّلاً، لكن تعامله أصبح عنيفاً مع الجميع، وبات يسرق من الأطفال ما تعجز الأم عن تأمينه، فما كان من والدته سوى ضربه أحياناً بشكل مبرّح، آملة أن يعدّل ذلك من سلوكه، لكن وصل به الحال إلى احتجازه في دار التوجيه الاجتماعي (المخصصة للأحداث) بصنعاء، عام 2018 بسبب سرقة منازل ليمكث في الدار 3 أشهر، وبعد خروجه غادر منزل الأسرة دون عودة إلى اليوم، كما تروي بلوعة شقيقته كريمة.
وعانى أحمد نفسياً بشكل خطير، بسبب صدمة فقدان والده وتحولات التعامل معه في البيت حد التعنيف، وافتقاره إلى أبسط الاحتياجات، ما جعله يلجأ إلى العنف، بحسب تحليل أستاذ الطب النفسي في جامعة صنعاء الدكتور عبد السلام عشيش، وهو ما تتفق معه أستاذة علم النفس في جامعة صنعاء، الدكتورة وعد المنيفي، موضحة أن أطفال مَن يُعدَمون، أو حتى المحكوم عليهم بالإعدام، يصابون بـ"اضطراب ما بعد الصدمة" (PTSD)، المرتبط بحالة صحية عقلية يستثيرها حدث مخيف قد يحدث للشخص أو يشهده، ومن أعراض هذا الاضطراب استرجاع الأحداث، والكوابيس والقلق الشديد، بالإضافة إلى الأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها بخصوص الحدث، موضحة أن "الصدمة النفسية في بداياتها، يمكن أن تظهر في ثلاث حالات: الأولى الاستسلام والتبلد، والثانية الهروب من الضغوط والإنكار وعدم تقبل الموقف (فقدان الوالد)، والثالثة مواجهة الصدمة، ما يؤكد ضرورة التدخل النفسي منذ البداية وبشكل طارئ ودون تأخير، حتى يستوعب هؤلاء الأطفال أنهم سيفقدون آباءهم أو أمهاتهم، لكونهم أكثر عرضة للإصابة بمشاكل تتعلق بالصحة العقلية، كالخوف والكآبة والارتباك النفسي وقلة الاعتداد بالنفس ومشاكل النوم والقلق، واضطرابات الأكل، والشعور بالعجز، كما حدث مع أحمد و3 آخرين، بينما فئة من هؤلاء الأطفال يبرز لديها سلوك عدواني مضاد للمجتمع، وهو ما يُسمى "الشخصية السيكوباتية". وفي المقابل، هناك من يميل إلى الإبداع والتميز بعد تعرضه لصدمة.
5.5 ملايين يمني يعانون من اضطرابات نفسية
يفاقم النقص الحاد في المنشآت النفسية معاناة الأطفال المتأثرين بإعدام أحد الوالدين أو فقدانهم لأسباب أخرى، إذ يوجد 13 عيادة ملحقة بمستشفيات عامة وخاصة وريفية، فيما لا يتجاوز عدد العيادات الخاصة 35 عيادة يتركز معظمها في العاصمة، وفقاً لدراسة صادرة عن مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري عام 2017، بعنوان تقدير انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان المتضررين من الحرب في اليمن، والتي تكشف أن 5.5 ملايين يمني يعانون من نوع واحد من أنواع الاضطرابات النفسية، 80% منهم ينتمون إلى فئة الشباب، وأعمارهم بين 16 و30 عاماً.
وتغيب الإحصائيات الدقيقة التي تحدد الحجم الفعلي لشريحة الأطفال ممن أُعدم والداهما أو أحدهما، بسبب تكتم حكومة صنعاء (تابعة للحوثيين)، كما يوضح محمد الشوافي المحامي في إدارة الدفاع الاجتماعي بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ومحكمة ونيابة الأحداث.
ورغم ما يحتاجه هؤلاء الأطفال من دعم متخصص ورعاية صحية وعقلية مناسبة، كما تشير دراسة صادرة عن مكتب كويكر للتشاور لدى الأمم المتحدة (منظمة غير حكومية) في يونيو/حزيران 2013، بعنوان "تخفيف العبء عن الأطفال المحكوم أباؤهم أو أمهاتهم بالإعدام"، نظراً لما رصدته من تداعيات خطيرة على الأطفال المحكوم على آبائهم بالإعدام أو المُعدَمين، ومعاناتهم من الشعور بصدمة نفسية وعزلة اجتماعية بالغة التعقيد يصاحبها في الغالب نبذ المجتمع لهم.
لكن هذه الشريحة من الأطفال، لم تدخل بعد ضمن الفئات الأربع التي توفر لها الجهات المعنية الحماية، وتوجه إليها النشاطات الحقوقية، سواء المؤسسات والمنظمات الحكومية أو غير الحكومية، وفق رضوان الشرجبي، المدرب الوطني في نظام إدارة الحالة للأطفال المستضعفين، الذي تطبقه وزارة الشؤون الاجتماعية لحل مشكلات الأطفال وتوفير الحماية لهم ولأسرهم.
وصم وتهميش واستغلال
"كثيراً ما ينظر الناس إلى أطفال المحكومين بالإعدام أو الذين أُعدِموا، وإلى مقدمي خدمات الرعاية لهم نظرة سلبية، غالباً ما تستمر حتى بعد تنفيذ الحكم، وقد تكون الوصمة بسبب الجريمة أو بسبب العقوبة، ويمكن أن تأتي من المجتمع أو من الأنظمة القضائية التي تلجأ إلى شيطنة المشتبه فيهم أو المدانين ونعتهم بألفاظ قاسية تلتصق لاحقاً بأبنائهم"، وفق ما جاء في دراسة "تخفيف العبء عن الأطفال(...)"، كذلك تمنع الوصمة المجتمعية كثيراً من الآباء أو الأمهات من اللجوء إلى طلب استشارة مختصين، ما يحرم الأطفال الخضوع لتشخيص وعلاج، وهو ما ترصده الاختصاصية الاجتماعية في وزارة الشؤون الاجتماعية، والناشطة في قضايا الأطفال وعدالة الأحداث، نادين الأكحلي، ضمن برنامج عدالة الأطفال (مكرس للدعم والحماية القانونية والقضائية والاجتماعية) والذي تنفذه الجهات القضائية مع وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الداخلية.
وتعمل الأكحلي على تقديم جلسات دعم اجتماعية ونفسية في صنعاء لأربعة أطفال تراوح أعمارهم بين 4 و14عاماً يمرون باضطراب ما بعد الصدمة عقب صدور حكم بالإعدام على والدهم في العام الماضي، بعدما تقدمت الأم في نهاية أغسطس/ آب الماضي بطلب مساعدة إلى مركز حماية الأسرة، التابع لوزارة الداخلية في صنعاء، والذي نسّق بدوره مع الوزارة، وتسعى الاختصاصية الاجتماعية لمساعدة الأطفال على تجاوز الصدمة التي ولّدت لديهم شعوراً عميقاً بالخوف وعدم الاستقرار، في ظل الحياة مع ما يتهددهم، وهو تنفيذ الإعدام بحق والدهم في أي وقت، وتكشف أن الحديث معهم يظهر شعورهم بالعار وتعرضهم للإذلال خارج المنزل بسبب النبذ المجتمعي، وكثيراً ما يجدون صعوبة في شرح وضعهم، وأحياناً يلجأون إلى الإنكار وإخفاء مشاعرهم.
و"في الواقع، يعيش هؤلاء الأطفال في عزلة رهيبة، وشددت الأم هذه العزلة، بعد اتهام اثنين من أطفالها بحرق سيارة في أثناء لعبهما بالحيّ، وهي تهمة تؤكد الأم بطلانها، لكن الفاعلين الحقيقيين حمّلوا طفليها المسؤولية، لعلمهم بغياب والدهم الذي سيدافع عنهم"، كما تقول الأكحلي، نقلاً عن الأم، مبينة أن الطفل في هذه الحالة قد يصبح متمرداً ومنتقماً من المجتمع الذي أفقده شخصاً عزيزاً، وحوّله إلى مهمَّش ومضطهد.
نزوع إلى الجريمة
يقضي الطفل إيهاب ناصر ذو الـ 11 عاما فترة إعادة التأهيل في مركز الطفولة الآمنة في صنعاء منذ ضبطه في يوليو/تموز عام 2021 مع مجموعة أطفال يتسولون لصالح عصابات، بعد إعدام والده عام 2013 لإدانته بجريمة قتل، كما يعاني آثار استغلال جنسي أيضا، بحسب روايته للمتخصصين في المركز، وفق إفادة الاختصاصية الأكحلي المطلعة على حالته.
وتعزو الاختصاصية الاجتماعية، انزلاق هؤلاء الأطفال إلى الجريمة بسبب الحرمان الذي يعيشونه بعد خسارة المعيل، وما تواجهه الأسرة من أعباء معيشية واقتصادية تدفع بالأطفال إلى ممارسات خطيرة، وتجعلهم عرضة للانتهاكات الجسدية والنفسية.
وينسحب ذلك على باقي الأطفال الذين يعانون بسبب الفقر والصراع ونقص الفرص التعليمية، إذ يوجد في اليمن ما يزيد عن مليوني فتاة وفتى في سن الدراسة خارج المدرسة، وفق ما يوثقه تقرير منظمة اليونيسف الصادر في يوليو 2021 حول تأثير النزاع على تعليم الأطفال، وهي ظروف تسهل انخراطهم في الجريمة، إذ سجلت البلاد 4700 جريمة جسيمة وغير جسيمة بين صفوف الأطفال خلال عام 2019، وفقا لمحمد حطرم، المستشار القانوني في وزارة العدل بصنعاء (تابعة للحوثيين).
وتعتبر العبسي، أن الدولة عليها توفير الحماية اللاحقة (البَعدية) وسن التشريعات المتعلقة بها لأسرة وأطفال المحكوم عليهم بالإعدام، خلاف ذلك فهي تتسبب بخلل مزدوج يتعلق بغياب العائل وترك الأسرة والأطفال تحديدا مهملين، خاصة إذا لم يكن هناك أشخاص يبدون استعدادهم لإعالة وكفالة الأطفال، وبذلك يكونون عرضة للعنف ولاستغلالهم في الجريمة، ولضمان تقديم الرعاية والحماية لهؤلاء الأطفال، تؤكد العبسي ضرورة التنسيق بين وزارتي الشؤون الاجتماعية والقانونية والقضائية والجهات المعنية بقضايا الطفولة رسمية وغير رسمية.
ويحيل مدير عام التوعية والإعلام في وزارة حقوق الإنسان بصنعاء، رامي اليوسفي، مسؤولية رصد وحماية هؤلاء الأطفال إلى الجهات العدلية ووزارة الشؤون الاجتماعية، في حين يرد مدير إدارة "الأحداث" في وزارة الشؤون الاجتماعية، عباس غالب، بأن أبناء الأشخاص ممن تم إعدامهم غير مشمولين إلى الآن بشكل خاص في إطار اهتمامات ونشاطات الوزارة، مضيفا أن برامج الوزارة لا تستثني هذه الفئة بشكل مباشر ومن الوارد أن من بينهم أطفال أُدمجوا بأحد برامج الوزارة.
التعليقات